الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والأخبار في هذا الباب كثيرة.واستشكل أمر الحفظ بأن المقدر لابد من أن يكون وغير المقدر لا يكون أبدًا فالحفظ من أي شيء.وأجيب بأن من القضاء والقدر ما هو معلق فيكون الحفظ منه ولهذا حسن تعاطي الأسباب وإلا فمثل ذلك وارد فيها بأن يقال: إن الأمر الذي نريد أن نتعاطاه إما أن يكون مقدرًا وجوده فلابد أن يكون أو مقدرًا عدمه فلابد أن لا يكون فما الفائدة في تعاطيه والتشبث بأسبابه.وتعقب هذا بأن ما ذكر إنما حسن منا لجهلنا بأن ما نطلبه من المعلق أو من غيره والمسألة المستشكلة ليست كذلك، وأنت تعلم أن الله تعالى جعل في المحسوسات أسبابًا محسوسة وربط بها مسبباتها حسبما تقضيه حكمته الباهرة ولو شاء لأوجد المسببات من غير أسباب لغناه جل شأنه الذاتي، ولا مانع من أن يجعل في الأمور الغير المحسوسة أسبابًا يربط بها المسببات كذلك، وحينئذ يقال: إنه جلت عظمته جعل أولئك الحفظة أسبابًا للحفظ كما جعل في المحسوس نحو الجفن للعين سببًا لحفظها مع أنه ليس سببًا إلا للحفظ مما لم يبرم من قضائه وقدره جل جلاله، والوقوف على الحكم بأعيانها مما لم نكلف به، والعلم بأن أفعاله تالى لا تخلو عن الحكم والمصالح على الإجمال مما يكفي المؤمن، ويقال نحو هذا في أمر الكرام الكاتبين فهم موجودون بالنص وقد جعلهم الله تعالى حفظة لأعمال العبد كاتبين لها ونحن نؤمن بذلك وإن لم نعلم ما قلمهم وما مدادهم وما قرطاسهم وكيف كتابتهم وأين محلهم وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى كاف في الثواب والعقاب عليها وكذا تذكر الإنسان لها وعلمه وعلمه بها يوم القيامة كاف في دفع ما عسى أن يختلج في صدره عند معاينة ما يترتب عليها.ومن الناس من خاض في بيان الحكمة وهو أسهل من بيان ما معها.وذكر الإمام الرازي في جواب السؤال عن فائدة جعل الملائكة عليهم السلام موكلين علينا كلامًا طويلًا فقال: إعلم أن ذلك غير مستبعد لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة، ولا شك أن لتلك الكواكب أرواحًا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الكواكب أوراحًا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح في الحقيقة، وكذا القول في تدبير الهيلاك والكدخداه على ما يقولون.وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور على ألسنتهم فإنهم يقولون: أخبرنا الطباع التام بكذا، ومرادهم به أن لكل إنسان روحًا فلكية تتولى صلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته، وإذا كان هذا متفقًا عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئة في الشرع.وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خية وبعضها شريرة وبعضها حرة وبعضها نذلة وبعضها قوية القهر وبعضها ضعيفته، وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذلك القول في الأرواح الفلكية، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وصفة أقوى من الأرواح البشرية، وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة وتكون في مرتبة روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية، فتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروحي الفلكي وإذا كان الأمر كذلك فإن ذلك الروح الفلكي يكون معينًا على مهماتها ومرشدًا لها إلى مصالحها وعاصمًا إياها عن صنوف الآفات، وهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة، وبذلك يعلم أن ما وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فلا يمكن استنكاره. اهـ.ولعل مقصوده بذلك تنظير أمر الحفظة مع العبد بأمر الأرواح الفلكية معه على زعم الفلاسفة في الجملة، وإلا فما يقوله المسلمون في أمرهم أمر وما يقوله الفلاسفة في أمر تلك الأرواح أمر آخر وهيهات هيهات أن نقول بما قالوا فإنه بعيد عما جاء عن الشارع عليه الصلاة والسلام بمراحل، ثم ذكر عليه الرحمة من فوائد الحفظة للأعمال أن العبد إذا علم أن الملائكة عليهم السلام يحضرونه ويحصون عليه أعماله وهم هم كان أقرب إلى الحذر عن ارتكاب المعاصي، كمن يكون بين يدي أناس أجلاء من خدام الملك موكلين عليه فإنه لا يكاد يحاول معصية بينهم، وقد ذكر ذلك غيره ولا يخلو عن حسن، ثم نقل عن المتكلمين في فائدة الصحف المكتوبة أنها وزنها يوم القيامة فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، ويظهر كل من الأمرين للخلائق.وتعقبه القاضي بأن ذلك بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء والعياذ بالله تعالى فلا يجوز توقف حصول المعرفة على الميزان، ثم أجاب بأنه لا يمتنع أيضًا ما ذكرناه لأمر يرجع إلى حصول سرور العبد عند الخلق العظيم بظهور أنه من أولياء الله تعالى لهم وحصول ضد ذلك لمن كان من أعداء الله تعالى، ولا يخفى أن هذا مبني على أن الذي يوزن هو الصحف وهو أحد أقوال في المسؤلة.نعم ذهب إليه جمع من الأجلة لحديث البطاقة والسجلات المشهور، وكذا على أن الكتابة على معناها الظاهر وهو الذي ذهب إليه أهل الحديث بل وغيرهم فيما أعلم ونقل عن حكماء الإسلام: معنى آخر فقال: إن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف بعض المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني بأعيانها وذواتها كانت تلك الكتابة أقوى وأكمل، وحينئذ نقول: إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب ذلك ملكة قوية راسخة، فإن كانت تلك الملكة ملكة في أعمال نافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بعد الموت، وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد، ثم قال: إذا ثبت هذا فنقول: إن التكرير الكثير إن كان سببًا لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة، وإذا عرف هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة وآثار الشقاوة قل أو كثر، وهذا هو المراد من كتب الأعمال عند حكماء الإسلام والله تعالى العالم بحقائق الأمور انتهى، وقد رأيت ذلك لبعض الصوفية.وأنت تعلم أنه خلاف ما نطقت به الآيات والأخبار، ونحن في أمثال هذه الأمور لا نعدل عن الظاهر ما أمكن، والحق أبلج وما بعد الحق إلا الضلال هذا.ومن الناس من جعل ضمير: {لَهُ} لمن الأخير والأول أولى، ومنهم من جعله لله تعالى وما بعده لمن وفيه تفكيك للضمائر من غير داع، ومنهم من جعله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام معلوم من السياق وقد تقدم الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ} [يونس: 20] الآية.واستدل على ذلك بما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيا إليه وهو عليه الصلاة والسلام جالس فجلسا بين يديه فقال عامر: ما تجعل لي إن أسلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال: أتجعل لي إن أسلمت الأمر بعدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال: فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال صلى الله عليه وسلم: لا فلما قفى من عنده قال: لأملأنها عليك خيلًا ورجلًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله تعالى، وفي رواية وابناء قيلة يريد الأوس والخزرج فلما خرجا قال عامر: يا أربد أنى سألهي محمدًا عنك بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلته لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام عليه الصلاة والسلام معه فخليا إلى الجدار ووقف عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده عليك يبست على قائمه فلم يستطع سله وأبطأ على عامر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما وقال عامر لأربد: ما لك؟ قال: وضعت يدي على قائم سيفي فيبست فلما خرجا حتى إذا كانا بالرقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فوقع بهما أسيد قال: اشخصا يا عدوى الله تعالى لعنكم الله تعالى فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال: هذا أسيد بن حضير الكتائب فقال: أما والله إن كان حضير صديقًا لي، ثم إن الله سبحانه أرسل على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بوادي الجريد أرسل الله تعالى عليه قرحة فأدركه الموت، وفي رواية أنه كان يصيح يا لعامر أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فأنزل الله تعالى فيهما: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} [الرعد: 8] إلى قوله سبحانه: {لَهُ معقبات} إلى آخره ثم قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجاء في رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، والأكثرون على اعتبار العموم، وسبب النزول لا يأبى ذلك والله تعالى أعلم، ثم أنه سبحانه بعد أن ذكر إحاطة علمه بالعباد وإن لهم معقبات يحفظونهم من أمره جل شأنه نبه على لزوم الطاعة ووبال المعصية فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والعافية: {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} ما اتصفت به ذواتهم من الأحوال الجميلة لا ما أضمروه ونووه فقط، والمراد بتغبير ذلك تبديله بخلافه لا مجرد تركه، وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعًا يقول الله تعالى: «وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي وما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من عذابي». أخرجه ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه.واستشكل ظاهر الآية حيث أفادت أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ما قررته الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ومنه قوله سبحانه: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل: «أنهلك وفينا الصالحون؟ نعم إذا كثر الخبث» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله سبحانه بعقاب» في أشياء كثيرة وأيضًا قد ينزل الله تعالى بالعبد مصائب يزيد بها أجره، وقد يستدرج المذنب بترك ذلك.وأولها ابن عطية لذلك بأن المراد حتى يقع تغيير ما منهم أو ممن هو منهم كما غير سبحانه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم والحق أن المراد أن ذلك عادة الله تعالى الجارية في الأكثر لا أنه سبحانه لا يصيب قومًا إلا بتقدم ذنب منهم فلا إشكال، قيل: ولك أن تقول: إن قوله سبحانه: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} تتميم لتدارك ما ذكر وفيه تأمل، والسوء يجمع كل ما يسوء من مرض وفقر وغيرهما من أنواع البلاء، و: {مَرَدَّ} مصدر ميمي أي فلا رد له، والعامل في: {إِذَا} ما دل عليه الجواب لأن معمول المصدر وكذا ما بعد الفاء لا يتقدم عليه، والتقدير كما قال أبو البقاء وقع أو لم يرد أو نحو ذلك، والظاهر أن: {إِذَا} للكلية، وقد جاءت كذلك في أكثر الآيات: {وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ} سبحانه: {مِن وَالٍ} يلي أمورهم من ضرر ونفع ويدخل في ذلك دخولًا أوليًا دفع السوء عنهم، وقيل: الأول إشارة إلى نفي الدافع بالدال وهذا إشارة إلى نفي الرافع بالراء لئلا يتكرر ولا حاجة إلى ذلك كما لا يخفى.واستدل بالآية على أن خلاف مراد الله تعالى محال.واعترض بأنها إنما تدل على أنه تعالى إذا أراد بقوم سوءًا وجب وقوعه ولا تدل على أن كل مراد له تعالى كذلك ولا على استحالة خلافه بل على عدم وقوعه، وأجيب بأنه لا فرق بين إرادة السوء وإرادة غيره لكن اقتصر على إرادة الأول لأن الكلام في الانتقام من الكفار وهو أبلغ في تخويفهم فإذا امتنع رد السوء فغيره كذلك، والمراد بالاستحالة عدم الإمكان الوقوعي لا الذاتي ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن أعجب ما قيل: إن الجمهور احتجوا بالآية على أن المعاصي مما يشملها السوء وأنها يخلقه تعالى، ومن الناس من جعل الآية متعلقة بقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} [الرعد: 6] إلى آخره وبين ذلك أبو حيان بما لا يرتضيه إنسان، وقيل: إن فيها إيذانًا بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما في أنفسهم من الفطرة فاستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى هذا.ووقف ابن كثير على: {هَادٍ} [الرعد: 7] وكذا: {وَاقٍ} [الرعد: 34] حيث وقع وعلى: {وَالٍ} هنا و: {بَاقٍ} في النحل [96] بإثبات الياء وباقي السبعة وقفوا بحذفها.وفي الإقناع لأبي جعفر ابن الباذش عن ابن مجاهد الوقف في جميع الباب لابن كثير بالياء وهذا لا يعرفه المكيون، وفيه أيضًا عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء وأن يقف بحذفها كذا في البحر وفيه أنه أثبت ابن كثير وأبو عمرو في رواية ياء: {المتعال} وقفًا ووصلًا وهو الكثير في لسان العرب وحذفها الباقون وصلًا ووقفًا لأنها كذلك رسمت في الإمام.واستشهد سيبويه لحذفها في الفواصل والقوافي وأجاز غيره حذفها مطلقًا ووجهه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين وأل معاقبة له أجراء المعاقب مجرى المعاقب. اهـ.
|